تجربة الخطيب الحكيم الأولى: المتعة1 وَقُلْتُ لِنَفْسِي: "إِنِّي بِالفَرَحِ خَبِيرٌ وَإِلَى السَّعَادَةِ أَسِيرُ!" وَلَكِنْ هَا أَنَا أَرَى أَنَّ المُتَعَ كَالهَبَاءِ المَنثُورِ. 2 وَقُلْتُ: "هَذَا الضَّحِكُ غَبَاءٌ، وَكُلُّ مَنْ وَرَاءَهُ يَسعَى لَا يَجنِي غَيرَ الصَّدَى". 3 وَبَعدَ تَدَبُّرٍ عَمِيقٍ، حَاوَلْتُ أَنْ أَشرَحَ صَدرِي وَأَسقِي نَفْسِي مِنَ الخَمرِ العَتِيقِ. وَسَعيْتُ أَنْ أَكُونَ حَكِيمًا، لَكِنِّي حَافَظْتُ عَلَى الحُمقِ وَالبَلَاهَةِ أَيضًا، حَتَّى أَجِدَ مَنبَعَ سَعَادَةِ الَّذِينَ عَبَرُوا الحَيَاةَ الدُّنيَا. 4 وَأَتَيْتُ أَمرًا مُهِمًّا، فَشَيَّدْتُ لِنَفسِي قُصُورًا وَغَرَسْتُ كُرُومًا. 5 وَزَرَعْتُ جَنَّاتٍ وَبَساتِينَ، وَغَرَسْتُ فِيهَا أَشجَارَ فَاكِهَةٍ ذَاتَ أَنوَاعٍ لَا تُحصَى. 6 وَحَفرْتُ بِرَكَ مَاءٍ لِأَسقِيَ البَساتِينَ اليَانِعَةَ. 7 وَمَلَكْتُ جَوَارِيَ وَعَبِيدًا وَمِنهُمْ مَنْ كَانَ فِي بَيتِي مُولُودًا. وَاِشتَرَيْتُ أَنعَامًا وَأَغنَامًا كَثِيرَةً يَربُو عَدَدُهَا عَمَّا مَلَكَهُ مُلُوكُ القُدسِ مِن قَبلِي. 8 وَجَمَعْتُ مِنَ المُلُوكِ المُجَاورِينَ كَمًّا هَائِلاً مِنَ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ. وَأَصبَحَتْ مَجَالِسِي تُطرِبُهَا المُغنِّيَاتُ وَيُسعِدُهَا المُغَنُّونَ، وَالمَلذَّاتُ بِالنِّسَاءِ الفَاتِنَاتِ تَغْشَاهَا. مَا مِنْ مُتعَةٍ أَوْ شَهْوَةٌ إِلَّا أَتَينَاهَا. 9 وَكَذَلِكَ صِرْتُ عَلَى القُدسِ أَعظَمَ المُلُوكِ، وَحِكمَتِي لَا أَنسَاهَا. 10 وَنَهَلْتُ مِنَ الشَّهَوَاتِ مَا لَذَّ وَطَابَ وَمَا حَرمْتُ النَّفْسَ شَيئًا مِنْ هَوَاهَا، فَتَمَتَّعتُ بِمَا أَنْجَزَتْهُ يَدَاهَا. وَلَقَد كَانَتْ إِنجَازَاتِي جَزَاءً عَلَى مَا بَذَلْتُهُ مِن جُهُودٍ. 11 غَيرَ أَنِّي تَمَعَّنْتُ فِيمَا أَنجَزْتُهُ بُجُهدٍ جَهِيدٍ، فَوَجَدْتُهُ هَبَاءً وَخَوَاءً، كَأنَّما أُلَاحِقُ الهَوَاءَ. فَمَا الَّذِي يَجنِيْهِ الإِنسَانُ فِي هَذِهِ الدُّنيَا النَّكرَاءِ؟ تجربة الخطيب الحكيم الثانية: جمع المال12 ثُمَّ قَرَّرْتُ أَنْ أُقَارِنَ الحِكمَةَ بِالحُمقِ وَالجُنُونِ، وَقُلْتُ: "سَأَجتَهِدُ فِي ذَلِكَ لَعَلَّ مَن سَيَخلُفُنِي عَلَى عَرشِ المَملَكةِ يَستَفِيدُ مِن جُهودِي". 13 فَوَجَدْتُ أَنَّ الحِكمَةَ أَفضَلُ مِنَ الحَمَاقَاتِ، مِثلَمَا أَنَّ النُّورَ أَفضَلُ مِنَ الظُّلُمَاتِ. 14 فَالحَكِيمُ يَرَى فِي دَربِهِ النُّورَ، فِي حِينِ يَتِيهُ الجَاهِلُ فِي الدَّيجُورِ. وَلَكِنِّي كُنْتُ عَلَى يَقِينٍ أَنَّ كِلَيهِمَا سَيَلقَى المَوتَ مَصِيرًا. 15 فَقلْتُ فِي نَفسِي: "إِذَا كُنْتُ سَأَلقَى المَوتَ كَمَا يَلقَاهُ الجَاهِلُونَ، فَأَيُّ نَفعٍ فِي أَنْ أَكُونَ حَكِيمًا؟ إِنَّ مَا وَصَلْتُ إِلَيهِ هَبَاءٌ مَنثُورٌ. 16 سَيَأكُلُنَا التُّرَابُ وَالدِّيدَانُ وَيَطوِينَا النِّسيَانُ، حُكَمَاءَ كُنَّا أَمْ جَاهِلِينَ! 17 وَخَزَنِي مَا يَجرِي فِي هَذهِ الدُّنيَا بِأَلمٍ شَدِيدٍ وَنَفَّرَنِي مِنَ الحَيَاةِ نُفُورًا. فَكُلُّ مَا فِيهَا كَانَ هَبَاءً مَنثُورًا، وَكَأنَّنِي أُمْسِكُ بِرِيحٍ ذَاتِ خَواءٍ. 18 وَنَفَرْتُ مِن كُلِّ مَا أَنجَزْتُهُ بِجُهدٍ جَهِيدٍ، فَكُلُّ مَا كَسِبْتُهُ فِي هَذِهِ الحَيَاةِ سَأَترُكُهُ لِخَلَفِي، 19 تُرَى أَيَكُونُ حَكِيمًا أَم هُوَ فِي غَبَائِهِ سَعِيدٌ؟ وَفِي النِّهَايَةِ سَيَمْلِكُ مَا كَسِبْتُهُ وَبَذلْتُ فِيهِ حِكمَتِي وَشَقَائِي. إِنَّ هَذَا أَيضًا هَبَاءٌ فِي هَبَاءٍ. 20 أَكَلَنِي اليَأسُ فَجُهُودِي الّتِي بَذَلْتُهَا فِي هَذِهِ الدُّنيَا سَتَذهَبُ بَدَدًا. 21 فَكَيفَ يَترُكُ الحُكَمَاءُ أَهلَ الفَهمِ وَالِإتقَانِ، مَا جَمَعَتْهُ أَيدِيهِم لِأَهلِ الخُمُولِ سُدَىً؟ إِنَّ هَذَا كَذَلِكَ هَبَاءٌ فِي هَبَاءٍ وَمَأَسَاةٌ كُبرَى. 22 أَتُرَى الإِنسَانُ فِي هَذِهِ الدُّنيَا، جَنَى ثِمَارَ جُهدِهِ الَّذِي وَفَّى؟ 23 نُكَابِدُ فِي حَيَاتِنَا الآلَامَ وَالشَّقَاءَ، فَنَعمَلُ طِيلَةَ النَّهَارِ، وَتَحتَ الأَقَمَارِ لَا يَهدَأُ لَنَا بَالٌ، وَلَا نَركُنُ لِلصَّفَاءِ. لَكنَّ هَذَا أَيضًا هَبَاءٌ فِي هَبَاءٍ. 24 ثُمَّ قُلْتُ: لَا خَيرَ لِلإِنسَانِ إِلَّا فِي الأَكلِ وَالشَّرَابِ، وَأَنْ يَكُونَ بِأَعمَالِهِ فِي رِضَا، إِنَّ هَذِهِ اللَّذَّاتِ نَعِيمٌ مِنَ اللهِ الوَهَّابِ. 25 فَلَا أَحَدَ يَستَطِيعُ أَنْ يَأكُلَ أَو يَتنَعَّمَ بِحَيَاتِهِ إِلَّا بِفَضلِهِ تَعَالَى. 26 وَاللهُ يَمنَحُ لِلمُرتَضَى حِكمَةً وَاِنشِرَاحًا وَعِلمًا، وَيَجعَلُ الآثِمِينَ وَرَاءَ الثَّروَةِ لَاهِثِينَ وَبِجَمعِهَا مُنشَغِلِينَ، وَيَعُودُ هَذَا المَالُ فِي النِّهَايَةِ إِلَى مَنْ يُسِرُّ بِهِ رَبُّهُ وَعَنهُ يَرضَى. إِنَّ هَذَا كُلَّهُ هَبَاءٌ فِي هَبَاءٍ، وَكَأنَّنَا نُلَاحِقُ رِيحًا ذَاتَ خَوَاءٍ. |
© 2021, Al Kalima